فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قلت: خرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وثبت عن عائشة أنها قالت: «جاء أناس من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم. فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل. فقال عليه السلام: مَهْ يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفُحْش ولا التّفحُّش. فقلت: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟! فقال: ألستِ ترين أرد عليهم ما يقولون أقول وعليكم. فنزلت هذه الآية {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله}».
أي إن الله سلّم عليك وهم يقولون السام عليك، والسام الموت. خرجه البخاري ومسلم بمعناه.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» كذا الرواية: «وعليكم» بالواو وتكلم عليها العلماء؛ لأن الواو العاطفة يقتضي التشريك فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سآمة ديننا وهو الملال.
يقال: شئم يسأم سآمةً وسآمًا.
فقال بعضهم: الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر:
فَلَمَّا أَجَزْنَا ساحةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى

أي لما أجزنا انتحى فزاد الواو.
وقال بعضهم: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم.
وقال بعضهم: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
روي أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «سلّم ناس من يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقال: وعليكم. فقالت عائشة وغضبت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: بلى قد سمعت فرددت عليهم وإنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا» خرجه مسلم.
ورواية الواو أحسن معنىً، وإثباتها أصح روايةً وأشهر.
وقد اختلف في رد السلام على أهل الذمة هل هو واجب كالرد على المسلمين، وإليه ذهب ابن عباس والشَّعبي وقتادة؛ للأمر بذلك.
وذهب مالك فيما روى عنه أشهب وابن وهب إلى أن ذلك ليس بواجب فإن رددت فقل عليك.
وقد اختار ابن طاوس أن يقول في الرد عليهم: علاك السلام أي ارتفع عنك.
واختار بعض أصحابنا: السِّلام بكسر السين يعني الحجارة.
وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة؛ والله أعلم.
وروى مسروق عن عائشة قالت: «أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم ناس من اليهود، فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم؛ قال: وعليكم. قالت عائشة: قلت بل عليك السَّامُ والذَّامُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة لا تكوني فاحشة. فقالت: ما سمعت ما قالوا! فقال: أو ليس قد رددتُ عليهم الذي قالوا قلتُ وعليكم»
. وفي رواية قال: ففطنت بهم عائشة فسبّتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَهْ يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفحش والتفحش» وزاد فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} إلى آخر الآية.
الذام بتخفيف الميم هو العيب؛ وفي المثل (لا تَعْدَم الحسناءُ ذامًا) أي عيبًا، ويهمز ولا يهمز؛ يقال: ذَأَمَهُ يَذْأُمه، مثل ذأب يذأب، والمفعول مذؤوم مهموزًا، ومنه {مَذْءُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 18] ويقال: ذامَهُ يَذُومُه مخفَّفًا كرامه يرومه.
قوله تعالى: {وَيَقولونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقول} قالوا: لو كان محمد نبيًّا لعذّبنا الله بما نقول فهلاّ يعذبنا الله.
وقيل: قالوا إنه يردّ علينا ويقول وعليكم السام والسام الموت، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا.
وهذا موضع تعجُّب منهم؛ فإنهم كانوا أهل كتاب، وكانوا يعلمون أن الأنبياء قد يغُضَبون فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب.
{حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيهم جهنم عقابًا غدًا {فَبِئْسَ المصير} أي المرجع. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ}
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم، وقال مجاهد نزلت في اليهود.
وقال ابن السائب: في المنافقين، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة، وقوله تعالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين وإليه صلى الله عليه وسلم لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم.
وقرأ حمزة، وطلحة، والأعمش، ويحيى بن وثاب. ورويس {وينتجون} بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى.
وقرأ أبو حيوة {العدوان} بكسر العين حيث وقع، وقرئ {معصيات} بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} صح من رواية البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عائشة: «أن ناسًا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم» وفي رواية: «عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ا فقال صلى الله عليه وسلم: أو ما سمعت أقول: وعليكم؟ا فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جاؤك}» الآية.
وأخرج أحمد، والبيهقي في (شعب الايمان) بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية {بالشاكرين وَإِذَا جَاءكَ} الخ، والسام قال ابن الأثير: المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت، وجاء في رواية مهموزًا ومعناه أنكم تسأمون دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر فيه الهمز وتركه.
وقال الطبرسي: من قال: السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحًا وهي تحية الجاهلية كعم صباحًا ولم نقف على أثر في ذلك، وقوله تعالى: {وَيَقولونَ في أَنفُسِهِمْ} أي فيما بينهم، وجوز إبقاؤه على ظاهره {لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقول} أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيًا أي لو كان نيًا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية أوفق بالأول لأن أنعم صباحًا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى: {سلام على المرسلين} [الصافات: 181] {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرًا وإعلانًا بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد.
وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدي بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوبًا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحًا نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذابًا {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها.
{فَبِئْسَ المصير} أي جهنم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}
إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى: {نهوا عن النجوى} مؤذنًا بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة: نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا، فنزلت، فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفًا.
وإن كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة} [المجادلة: 7] كما تقدم، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى: {ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة}، فالمراد بـ {الذين نهوا عن النجوى} هم الذين عنوا بقوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] الآية.
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثمًا لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيّئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نُهوا عنها فقد زادوا به تمردًا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقّة للمسلمين.
فالجملة مُستأنفة استئنافًا ابتدائيًا اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.
والاستفهام في قوله: {ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى} تَعجِيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه.
والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف {إلى}.
والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لأن سياق الكلام في نوع خاص من النجوى.
وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10].
ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعمّ كل نجوى بمرأى من الناس سَدًّا للذريعة، قال الباجي في (المنتقى): روي أن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بَدء الإِسلام، فلما فشا الإِسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه.
قال ابن العربي في (أحكام القرآن) عند قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم} الآية [114] في سورة النساء: إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدهما: الإِخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه، والثاني: النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعدَ هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويَخُص به بعضهم بعضًا فرخص في ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين. اهـ.
وفي الموطأ حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد» زاد في رواية مسلم: «إلا بإذنه فإن ذلك يُحزنه».